العظمة الطبيعية

 
الدكتور خليل سعاده – رسالة الى ولده أنطون الذي صمم العودة الى الوطن والعمل على نهضة الأمة. وهي ذات قيمة تربوية وفكرية عالية، تصلح لتنشئة أجيالنا الجديدة وأبناءنا على الثقة والعقلية الأخلاقية الجديدة وفهم معاني العظمة الطبيعية الحقيقية. وقد جاء فيها:
“إذا استولى الاضطراب والهلع على من حولك، وظللت أنت وحدك هادئاَ مطمئناً،
وإذا كانت ثقتك بنفسك راسخة، بينما ارتياب الناس يحيط بك من كل جانب،
وإذا كنت تستطيع مواجهة النصر والفشل بابتسامة واحدة،
وإذا كنت تخسر ثروتك كلها دفعة واحدة دون كلمة تذمر أو شكوى،
وإذا اضطررت إلى الانخراط في زمرة شرّ حرة، دون أن تخسر احترامك لنفسك،
وإذا رأيت اليأس مستولياً على كل من حولك، وأنت وحدك راسخ الإيمان جريء الجنان،
فأنت هو الرجل الذي أنشد…
إن عظمتك حينئذ ليست عظمة المسارح والممثلين، ولا هي عظمة الصغار الذين يريدون أن يكونوا كباراً، ولا عظمة الجهال الذين يريدون أن يكونوا فلاسفة، ولا عظمة المجانين الذين يريدون أن يكونوا نوابغ، ولا عظمة الذين هم لا شيء، ويريدون أن يكونوا كل شيء، ولا عظمة الثرثارين الذين يريدون أن يكونوا فصحاء، ولا عظمة الحمقى الذين يريدون أن يكونوا بلغاء، ولا عظمة البلداء الذين يريدون أن يكونوا رصينين، ولا عظمة العاجزين الذين يريدون أن يكونوا أقوياء.
إنَّ عظمتك لطبيعية!
لقد وهبتك الطبيعة عقلاً نفاذاً يخترق المادة حتى يبلغ جوهر الحقيقة، وفؤاداً مملوءاً بالنبالة، وقلباً ينبض بالجرأة والشجاعة، وإرادة من فولاذ وعزماً من حديد وإيماناً بنفسك لا يتطرق إليه الشك، وثقة بذاتك لا يأتيها الباطل من أمامك ولا من جانبك، ولا من ورائك، وروحاً كبيراً أكبر من كنوز الأرض كلها..
إنك لرجلٌ عظيم!
وإذا حاول العالم حولك، أن يحجب عظمتك عن الأبصار، فاضحك منه كما تضحك الشمس ممن يحاول أن يحجب نورها بكفيه عن عيون البشر.
لذلك قلت لك في مقالة سابقة لا تبالي بأصحاب القلوب الصغيرة، الذين يحسبون مواهبك ذنباً عليك، ويعدّون عظمتك العقليّة سيّئة إليهم من سيئات الزمان.
كذا فعلوا بجماع العظماء والعلماء والأنبياء المتقدمين، وكذا يفعلون بالمتأخرين، لأن الطبيعة البشرية واحدة في ما تقدم من الدهور، وهي هي في ما يتأخر من العصور. فلا تكن خائناً للطبيعة التي جعلت دماغك مستودعاً لذخائرها الثمينة، التي صرفت قروناً متطاولة في إعدادها لك لتكون زينة الحياة العاقلة والأخلاق الراقية..
الرجل العظيم هو نتيجة جهاد الطبيعة مدى مئات ملايين السنين، منذ وجدت في الاوقيانوسيات، كما بسحر ساحر، تلك الحويصلات التي نسميها كريات حية، وتطورت بفعل الطبيعة الساحرة حتى صارت كوائن عاقلة، توجت الإنسان ملكاً عليها وعلى سائر البسيطة كما يتوج الملك على الرعية..
العظمة الطبيعية إذن غريزة من غرائز الجسم، وهي تاج قواك العاقلة كما أن قواك العاقلة هي تاج دماغك.
وكما أنك ليس في وسعك أن تسيطر على قلبك فتمنعه من النبضان، ولا على رئتيك فتمنعهما من التنفس، كذلك ليس في وسعك أن تسيطر على تلافيف دماغك فتمنعها من التفكير الراقي والشعور الراقي وهما أساس العظمة الطبيعية.
أريد بالعظمة الطبيعية، تلك العظمة الفطرية التي لا يسندها علم، ولا فن ولا تجارة، ولا صناعة ولا ثروة. فإذا وَجدْت هذه أو وُجدَت كلها، كانت مكملة للعظمة لا منشئة لها، فالعظمة الطبيعية إنما هي المجردة من كل تصنّع، الخالية من كل تكلّف..
لعل الأغنياء في الشرق أو بين الشرقيين، أكثر الناس عرضة للوقوع في خطيئة العظمة الكاذبة، نظراً لما يرونه من تزلّف الناس إليهم حتى ليدور أخيراً في خلدهم أنهم حقيقة عظماء!
أما في الغرب، فقلما ترى شيئاً من ذلك، لأن عظمة الإنسان قائمة على العظمة الحقيقية، أي على مواهبه العقلية والأخلاقية مجردة عن الثروة، لذلك لا تجد في طول التاريخ وعرضه ذكراً لغني لمجرد غناه…
مات غني شهير في الولايات المتحدة، منذ بضع عشرة سنة لم يبذل من ماله شيئاً يستحق الذكر في سبيل المشروعات العامة أو الإحسان. فلما توفي عقدت الجرائد الأمريكية مقالات اضافية حشتها قدحاً، وملأتها طعناً في هذا الرجل السيئ الطالع. ولقد طلع في إحدى تلك الجرائد، أن تلك المقالات الهجائية لو قطعت ووصلت بعضها ببعض، لطوقت الكرة الأرضية كلها حول خط الاستواء…
أما بيننا نحن السوريين خصوصاً، فإن حملة المباخر أكثر من أن يُعَدّوا، وإذا أحببت أن تصدر حكماً بشأن عظمائنا بناء على ما تطالعه في جرائدنا السيارة، سواء في الوطن أو المهاجر، حكمت بأن العظمة في سوريا وبين السوريين إنما هي على وجه الإجمال منحصرة بين أصحاب الثروات الطائلة، وإن بين هؤلاء من يصدقون هذا القول الهراء، ويمثلون العظمة في مكاتبهم ومنازلهم، كما يفعل الممثلون على مسارح التمثيل…
العظمة الطبيعية أعظم صفات النفوس الكبيرة، فهي لؤلؤة بديعة نادرة من يملكها يملك أثمن كنوز العالم. وليس في وسع أحد من البشر أن يجعل الرجل العظيم صغيراً كما ليس في وسع أحد منهم أن يجعل الرجل الطويل قصيراً …
العظمة أثمن مواهب الطبيعة
العظمة تولد ولا تكتسب
العظمة تعطى ولا تؤخذ.”
– جريدة الرابطة، العدد 106، الصادر في 13 نيسان 1932
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى