العُروبة الزائفة والعروبة الصحيحة

 
العُروبة الزائفة والعروبة الصحيحة 
من الاسلام في رسالتيه
أنطون سعاده
 
أيظنّ أصحاب فكرة الجنسية الدينية المحمّدية أنّه لو عمَّ الإسلام المحمّدي العالم لأمكن إنشاء دولة واحدة تضمّ الإنسانية كلّها؟ إنّهم يظنّون هذا الظنّ وينادون بوجوب الدعوة إلى هذا الوهم، غير معتبرين بعلم ولا بتاريخ. فاختلاف أمزجة الشعوب وطبائعها وتبايُن مراميها وتعارُض غاياتها ليس منشأه «وجود الغواة من الأمراء ذوي المطامع في السلطة»، بل اختلاف الأقاليم والأجناس والبيئات وتبايُن المطالب العمومية وتعارُض الغايات الشعورية وتنائي الأقطار، ولذلك لا يمكن التفكير بضمِّ أبناء دينٍ واحدِ منتشرٍ في الأصقاع في دولة واحدة إلاّ على أساس الجهل والغرور، وقد يُحتجُّ بأنّ المحمّديين نقصهم ازدياد المعارف والفنون ليتّحدوا في دولة واحدة، والحقيقة أنّ هذا ينقصهم ليعلموا بطلان هذه الفكرة، فالشعوب المسيحية التي بلغت ذروة التمدُّن وأقصى العلم لم يمكن اتّحادها في دولة واحدة مع أنّ المسيحيين يعُدُّون أنفسهم إخوة في الدين، وتعاليم رسالتهم أوصتهم بالأخوّة، ذلك لأن أخوّة الدين لا يمكنها أن تحلّ محلّ الأخوّة القومية والحاجات والمطالب الشعوبية، ولذلك خابت الدولة الدينية العامّة المطلقة في جميع الأديان على السواء. وكلُّ دعوة لإعادة هذه الدولة هي تغريرٌ وشعوذة. والالتجاء إلى مبدإ البدل لإقامة دولة دينية محدودة بدلاً من الدولة الدينية العامّة هو شعوذةٌ أخرى لأنّ هذا البدل هو دليلٌ على فساد الفكرة الأساسية، فلو كانت الفكرة صحيحة للزم عدم انهيار الدولة الدينية بعد تأسيسها وعدم الاقتصار على بعض أهل الدين دون بعض.
 
وقد أوضحنا، في الحلقة السابقة، فساد قضيّة الدعوة إلى إنشاء دولة دينية محدودة بدلاً من إنشاء دولة دينية عامّة، فأثبتنا عدم وجود وعدم إمكان تعيين أصول ثابتة لفكرة الدولة العربية التي يتخيَّل الداعون الأساسيون لها إمكان جمع جميع الأمم المتكلّمة العربية والدائنة بالإسلام المحمّدي تحت لوائها. وبيَّنّا عدم استقرار هذه الدعوة على فكرة واضحة والمجال الواسع للتأويل فيها. فبما أنّها ليست سوى بدل من عقيدة فاسدة لم تصلح لتكون عقيدة في ذاتها ولذلك لم يتمكّن أصحابها من توليد حركة واحدة عامّة في جميع الأقطار الداخلة ضمن نطاق عالم اللغة العربية والدين المحمّدي.
العروبة التي تهمل المبادئ الجغرافية والإقليمية والسلالية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية الاجتماعية، أي جميع العوامل التي توجد الواقع الاجتماعيَّ وتتكفّل بحفظه، ولا تستند إلاّ إلى الدين وإلى اللغة بمقدار، هي عروبةٌ زائفةٌ لا نتيجة لها غير عرقلة سير المبادئ القومية الاجتماعية الصحيحة في سورية والأقطار العربية عامّة، وإعطاء الدول الأجنبية كلّ فرصة للتسلُّط على أمم العالم العربي والتغرير بها وإذلالها. هي عروبة زائفة لأنّها لا ترمي إلى نهوض أمم العالم العربي، بل إلى إيقاد نار الفتنة الدينية والحرب الداخلية في كلّ أمّة مؤلّفة من أكثر من ملَّة المحمّديين.
 
إنّ أصحاب هذه العروبة هم أعداءُ العرب الحقيقيون لأنّهم أعداءُ نشوء القومية الصحيحة في كلّ أمّة من أمم العالم العربي، وأعداءُ نهوض كلِّ من هذه الأمم كرجُلٍ واحد لنيل سيادتها وحقوقها والارتقاء نحو مطالبها العليا المكوّنة من نسيج شعورها وآمالها ومطامحها وأشواقها الأصيلة في نفس كلّ أمّة ومزاجها، وهم يتوهّمون، لجهلهم الفنون والعلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، أنَّ الأكثرية الملّية تُغني عن الواقع الاجتماعي وعن الوحدة القومية المُطلقة التامّة.
إنّ هؤلاء «العروبيين» قد زيَّفوا القومية ووضعوها في السوق للتداول عوضًا عن القومية الحقيقية التي هي شعور كلّ أمّة بشخصيتها ونفسيتها وحقوقها ومطالبها. وكما يلتبس على غير الخبراء بالعملة والطباعة المالية أمر العملة الزائفة، كذلك يلتبس على غير الخبراء بالعلوم الاجتماعية والسياسية وغير الممارسين للقومية الصحيحة أمر القومية الزائدة، فهم قد جعلوا العروبة في مقام الرابطة الدينية، ثمّ طلوها أو رسموها برسوم القومية زيادةً في التمويه والتضليل.
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى