من الفصل العاشر من الاسلام في رسالتيه

“بهذا التعليم السوري القومي الاجتماعي تنهض الأمّة السورية وكلّ أمّة عربية تتخبّط في محاولة عقيمة للتوفيق بين حزبية الدين والواقع الاجتماعي وليس «بسيف الرسول»، كما ينادي رشيد الخوري المأجور ليقول هذا القول.إنّ سيف الرسول لا يفيد في النهضات القومية، ففائدته الوحيدة كانت لنصرة الدين في بيئة يتعذّر فيها الانتصار بالفكر والفهم – في العربة. وما نسبة السيف إلى محمّد في القضايا القومية إلاّ من باب التزلّف إلى متهوِّسي المحمّديين. فالسيف انتضته الدول والأمم في حروبها وفتوحاتها قبل المحمّدية وقبل المسيحية. ولقد شقّ سيف هاني بعل إيطالية من شمالها إلى جنوبها في فتح لم يشهد التاريخ له مثيلاً قبل محمّد بنحو ثمانية قرون. وكان السيف يشهر في العربة قبل محمّد. ومزية محمّد الوحيدة في استعمال السيف هي أنّه أدخله في المسائل الدينية أيضًا. أمّا في المسائل القومية فلم يكن لمحمّد أيّ فضل فيه.
وهذه الحقيقة، التي لا غبار عليها، تمكّننا من إدراك مبلغ سخافة البيت الذي نظمه رشيد الخوري تزلّفًا وتمهيدًا لوغوله على العلم، وصفّق له السيد حسن كامل الصيرفي الكاتب في بعض المجلاّت المصرية وهو:
إذا حاولت رفع الضيم فاضرب بسيف محمّد واهجر يسوعا
فنسبة رفع الضيم إلى سيف محمّد الديني ليس سوى إقحام يخالف جميع الحقائق التاريخية، فالأمم، من قبل محمّد بعشرات القرون، تعمد إلى السيف أو الرمح أو النبلة لرفع الضيم. أمّا تهكّمه بعد هذا البيت على تعاليم المسيح بقوله:
«أحبّوا بعضكم بعضًا» وعظنا بها ذئبًا فما نجّت قطيعا
فمن أغرب ما عُرف في باب التخليط والخبل، «فأحبّوا بعضكم بعضًا» هي لوعظ الرعاة وجمع الخراف وليست «لوعظ الذئاب». ولذلك أوصى المسيح تلاميذه، حين أرسلهم ليكرزوا، قائلاً: «ها أنا مرسلكم مثل خرفان بين ذئاب، فكونوا حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام» (متّى: 10 – 16) وهذا يعني ألاّ يبقوا مع الذئاب كالخرفان، بل أن يصيروا كالحيّات في دهائها وإدراكها مع محافظتهم على الوداعة وسلامة النيّة، لأنّ مهمّتهم تعليمية وليست حربية.
أمّا هذر رشيد الخوري القائل: «ليس الإنجيل في نظر النصارى إلاّ ملحقًا أو ذيلاً لتوراة اليهود يكمل ما ابتدأ من شرّها الفظيع ويتمّم نبوءاتها القاضية بتجديد عهد العداء والتعدّي على أهل فلسطين» فمن أحطّ النفاق والزندقة والتدجيل، وكذلك قوله «فماذا استفاد المسيحيون من إنجيلهم وقد علّقوه في قفا التوراة للفرجة» فإذا كان رشيد الخوري يتظاهر بالنقمة على المسيحية لمجرّد أنّ المسيحيين جمعوا الكتابين، التوراة والإنجيل، في مجلّد واحد أحيانًا، فما قوله بوجود قسم كبير من سيرة اليهود وفرائض دينهم في القرآن كما بيّنّا آنفًا؟
المسيح هو الذي حرَّر الإنسانية من الشرائع التي جعلها اليهود أحكامًا أبدية: أمّا أنّ المسيحيين أرادوا جمع التوراة إلى كتابهم ليؤيّدوا ألوهية المسيح وصحّة مجيئه موعودًا به في النبوءات فلا يُفيد ذلك ما يفيده وجود شرائع موسوية كثيرة وقصص يهودية في صُلب القرآن.
إنّ الأمم المسيحية المتفوّقة لم تبلغ ما بلغته من التقدّم بتجريدها «سيف الرسول» بل بتجريدها سيف الوطنية أو القومية أو الفتح المعروف من قبل زمن محمّد. هذا من الناحية الخارجية، أمّا من الناحية الداخلية فكان تقدُّمها بترك السيف واتّباع تعاليم العدل والرحمة التي لا قيام لأيّ مجتمع بدونها، ولذلك نزلت الآية القرآنية بجعل الرحمة قاعدة الترابط بين المحمّديين، واعتماد السيف في المسائل الخارجية فقط. ولمّا كان الدين الإسلامي في المحمّدية قد تحوّل من مجرَّد تعليم روحي إلى دولة قائمة على قاعدة الدين غرضُها جمعُ مصالح المنضمّين تحت لوائها وبسط نفوذها إلى الدنيا بأسرها، عملاً بما جاء في القرآن: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} وقوله {إنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون} كان لا بُدَّ له من الاخذ بأسباب قيام الدول من تجنيد الرجال ومباشرة الحرب. ولكنّ هذه الغاية ليست غايتها القصوى، بل هي وسيلة إلى الغاية القصوى التي هي: الرحمة في المجتمع والعدل في الحكم. وهذه هي زبدة التعاليم المسيحية. فإذا افترضنا أنّ الله جعل الأرض كلّها ميراث المسلمين وورثوها فعلاً فماذا بعد ذلك؟ أليس القصد من هذا الوعد تعميم الصلاح من الرحمة والعدل؟ ألا يقول القرآن: {محمّد والذين معه رحماء بينهم}؟ وقال أيضًا {من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالرحمة} {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}.
أمّا المسيحية فلم تنشأ نشأة دولة، ولم تسر على خطّة دولة، بل كانت تعليمًا فلسفيًا مناقبيًا منزّهًا عن خطط الدولة، غرضه خير المجتمع الداخلي؛ وما نريد بالمجتمع هنا هو ما أوضحته في كتابي «نشوء الأمم» وسمّيته «الواقع الاجتماعي». وهو يعني كلّ مجتمع أو كيان اجتماعي. فالتعليم المسيحي ليس غرضه إنشاء دولة تجمع أتباعه وتحارب الدول الأخرى، وليس قصده جمع أشتات شعب وتنظيمهم في دولة كما جرى لليهود والعرب، لأنّ البيئة السورية عرفت الدولة من زمان فقامت فيها دول فتحت الفتوحات وجنّدت الجنود وأنشأت الأساطيل البحرية وسنّت القوانين، وإنّما كان غرضه إيجاد القواعد المناقبية التي تثبت المجتمع وتزيد فاعليته الروحية تجاه زعازع السياسة والحروب. والأمم تتعرّض، في تاريخها، للانكسار، كما تتعرّض للانتصار، فإذا انكسرت فلا إقالة لعثارها إلاّ بمبادئ مناقبية متينة. أمّا إذا فقدت هذه المبادئ واعتمدت السيف فقط فإنّ السيف يأخذها ولا يعود يقوم لها قائمة.”
الاسلام في رسالتيه
الفصل العاشر